تأملات في مدارك العلوم

استمعت بالصدفة لدرس يتناول كتاباً لزكريا الأنصاري بشرح الزركشي بخصوص العلم وماهيته.

وكان محور الدرس عبارة رئيسية:

مدارك العلوم ثلاثة : حس وخبر ونظر
وربط المتحدث الكلام بكلمة لمالك بن نبي المفكر الجزائري بأن هنالك ثلاثة عوالم

عالم الأشياء وعالم الأحداث وعالم الأفكار
وهذا التقسيم جيد ومفيد فقد وجدت الكثير من الشباب اليافع على الإنترنت لا يفرق بين هذه المجالات من المعلومات وأن ما يستدل به تاريخياً يختلف عما يستدل به تجريبياً.

وعلى هامش الحديث نذكر أن هذا التفريق يفيدنا في حل جملة منازعات فكرية لا زالت قيد التداول في المناظرات والحوارات المعاصرة ذات الصبغة الدينية واللادينية، فمعرفتنا بالفرق بين إثبات الحادثة وإثبات الفكرة وتحليل الشيء المادي كمناهج مستقلة وإن تداخلت في جزئيات منها يفيد في تحرير مكان الخلاف وتوضيح أين نتفق وأين نختلف ، ومن ذلك أيضاً الفرق بين آلية العمل والمسبب الرئيسي فمعرفتنا لكيفية عمل محرك لا يعني أن ننكر أن هنالك مهندساً صممه وميكانيكياً ركبه.

وفي كتاب إلحادي يقول المؤلف "إن وجود حديقة جميلة لا يعني أن هنالك جنيات تحتها" وأجاب على ذلك عالم رياضيات مشهور: أكيد وجود الجنيات مشكوك به ولكن وجود صاحب الحديقة والبستاني أمر مؤكد !

وهذه قضية مفاهيمية يكثر الخوض فيها إن معرفتنا لكيفية عمل الأشياء ليس بديلاً عن معرفتنا بسبب وجود الأشياء ، فلو حلل مجموعة من كبار العلماء قالب الحلوى الذي صنعته الجدة فسيكتشفون مكوناته وطريقة خبزه ونسبة المكونات ودرجة النضج له وفوائده أو مضاره الصحية ولكن جواب "لماذا صنعت الجدة هذا القالب من الحلوى؟" هو أمر يخرج عن نطاق كل علم من العلوم المعاصرة وهو أمر لا نعلمه إلا بإخبار من الجدة وهذا الإخبار بحد ذاته هو مصدر المعرفة الرئيسي هنا رغم أنه لا يخضع لتقييم العلم الذي حلل الحلوى وعرف مكوناتها،،أي أنه لا يخضع لتقييم مباشر من العلم التجريبي  بل يخضع مصدر معرفة أخر هو إخبار يتقبل تقييم العقل والمنطق فمثلاً هنالك إخبار مقبول وإخبار مرفوض فلو ان الجدة قالت هذا القالب قد صنع لنحتفل به في العيد أو لنقدمه لفلان ونحن نعلم بوجود عيد قريب أو وجود فلان فخبر الجدة عن لماذا صنعت الحلو مقبول، ولكن خبرها سيرفض لو قالت صنعته لتقديمه لرجال المريخ مثلاً لأننا لا نعرف لهم وجوداً فمجرد الإخبار منها ليس كافياً بمعزل عن العقل والتقييم المنطقي وإن كان لا يخضع للتقييم التجريبي كمصدر أساسي لمعرفة لمن صنعت الحلوى.

وهذا مقدمة لنعرف أن وجود معلوماتنا في مجالين هما عالم الغيب وعالم الشهادة لا يعني أن أدوات إثبات هذا تطابق أدوات ذاك ،

ولا أن عدم إمكانية استخدام أدوات عالم الشهادة في إثبات الغيبيات يؤدي إلى الحكم بأن كل الغيبيات خرافات، فهنالك خرافات كابتلاع القمر من العفاريت التي كان الأوربيون يصدقونها وهنالك غيبيات مثل حادثة شق البحر الموسى عليه السلام،

كما أن نشأة الكون غيب ولكنا نتقبلها بالاستنتاج العلمي من أثرها في انزياح الضوء الأحمر والخلفية المكروية وليس بالدليل التجريبي المباشر،

وخبر الأنبياء نتقبله كفرع عن تصديقنا بالنبوة والقرآن وفق منهج نقدي يحلل النص وطريقة وصوله إلينا وقد عمل عليه عشرات آلاف العلماء من قبل حتى تركوا لنا مقياساً نقدياً لإثبات ونفي الأخبار بالإضافة للمقاييس اللغوية والمنطقية الأخرى.